فصل: قال ابن عطية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الفخر:
في قوله: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} سؤال، وهو أنه كيف يجمع بين ذلك وبين ما روي أنه عليه الصلاة والسلام شج وجهه يوم أحد وكسرت رباعيته؟
والجواب من وجيهن: أحدهما: أن المراد يعصمه من القتل، وفيه التنبيه على أنه يجب عليه أن يحتمل كل ما دون النفس من أنواع البلاء، فما أشد تكليف الأنبياء عليهم الصلاة والسلام! وثانيها: أنها نزلت بعد يوم أحد.
واعلم أن المراد من {الناس} هاهنا الكفار، بدليل قوله تعالى: {إِنَّ الله لاَ يَهْدِى القوم الكافرين}.
ومعناه أنه تعالى لا يمكنهم مما يريدون، وعن أنس رضي الله عنه: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرسه سعد وحذيفة حتى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبة أدم وقال: «انصرفوا يا أيها الناس فقد عصمني الله من الناس». اهـ.

.قال ابن عطية:

{والله يعصمك من الناس} استلقى وقال: من شاء فليخذلني، مرتين أو ثلاثًا، و{يعصمك} معناه يحفظك ويجعل عليك وقاية، ومنه قوله تعالى: {يعصمني من الماء} [هود: 43] ومنه قول الشاعر:
فقلت عليكم مالكًا إن مالكًا ** سيعصمكم إن كان في الناس عاصم

وهذه العصمة التي في الآية هي من المخاوف التي يمكن أن توقف عن شيء من التبليغ كالقتل والأسر والأذى في الجسم ونحوه، وأما أقوال الكفار ونحوها فليست في الآية، وقوله تعالى: {لا يهدي القوم الكافرين} إما على الخصوص فيمن سبق في علم لا يؤمن، وإما على العموم على أن لا هداية في الكفر، ولا يهدي الله الكافر في سبل كفره. اهـ.

.قال القرطبي:

قوله تعالى: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} دليل على نبوّته؛ لأن الله عزّ وجلّ أخبر أنه معصوم، ومن ضمن سبحانه له العِصمة فلا يجوز أن يكون قد ترك شيئًا مما أَمَره الله به.
وسبب نزول هذه الآية: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان نازلًا تحت شجرة فجاء أعرابي فاخْتَرَطَ سيفه وقال للنبي صلى الله عليه وسلم: من يمنعك مني؟ فقال: «الله»؛ فذُعِرت يدُ الأعرابي وسقط السيف من يدِه، وضرب برأسه الشجرة حتى انتثر دِماغه»؛ ذكره المهدوي.
وذكره القاضي عِياض في كتاب الشّفاء قال: وقد رُوِيت هذه القصة في الصحيح، وأن غَوْرَث بن الحارث صاحب القصة، وأن النبي صلى الله عليه وسلم عفا عنه؛ فرجع إلى قومه وقال: جئتكم من عند خير الناس.
وقد تقدّم الكلام في هذا المعنى في هذه السورة عند قوله: {إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ} [المائدة: 11] مستوفى، وفي «النساء» أيضًا في ذِكر صلاة الخوف.
وفي صحيح ومسلم عن جابر بن عبد الله قال: غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم غزوة قِبلَ نَجْدٍ فأدركَنَا رسولُ الله صلى الله عليه وسلم في وادٍ كثير العِضَاهِ فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة فعلَّق سيفه بغصن من أغصانها، قال: وتفرق الناس في الوادي يَستظِلُّون بالشجر، قال فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن رجلًا أتاني وأنا نائم فأخذ السيف فاستيقظت وهو قائم على رأسي فلم أشعر إلا والسيف صَلْتًا في يده فقال لي: من يمنعك مني قال قلت الله ثم قال في الثانية من يمنعك مني قال قلت: الله قال: فشام السيفَ فها هو ذا جالس» ثم لَمْ يعرِض له رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم: «لمّا بعثني الله برسالته ضِقت بها ذَرعًا وعرفت أن من الناس من يكذبني فأنزل الله هذه الآية» وكان أبو طالب يرسل كل يوم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم رجالًا من بني هاشم يحرسونه حتى نزل: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «يا عماه إن الله قد عَصَمني من الجن والإنس فلا أحتاج إلى من يَحرسني» قلت: وهذا يقتضي أن ذلك كان بمكة، وأن الآية مكية وليس كذلك، وقد تقدّم أنّ هذه السورة مدنية بإجماع؛ ومما يدل على أنّ هذه الآية مدنية ما رواه مسلم في الصحيح عن عائشة قالت: سهِر رسول الله صلى الله عليه وسلم مَقْدَمه المدينَة ليلةً فقال: «ليت رجلًا صالحًا من أصحابي يحرسني الليلة» قالت: فبينا نحن كذلك سمعنا خَشْخَشة سِلاح؛ فقال: «من هذا»؟ قال: سعد بن أبي وقاص فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما جاء بك»؟ فقال: وقع في نفسي خوف على رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أحرسه؛ فدعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم نام «وفي غير الصحيح» قالت: فبينما نحن كذلك سمعت صوت السلاح؛ فقال: «من هذا»؟ فقالوا: سعد وحُذَيْفة جئنا نحرسك؛ فنام صلى الله عليه وسلم حتى سمعتُ غَطيطهُ ونزلت هذه الآية؛ فأخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم رأسه من قُبَّة أدَمَ وقال: «انصرفوا أيها الناس فقد عَصَمني الله».
وقرأ أهل المدينة: {رِسَالاَتِهِ} على الجمع.
وأبو عمرو وأهل الكوفة: {رِسَالَتَهُ} على التوحيد؛ قال النحاس: والقراءتان حسنتان والجمع أبْيَن؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ينزل عليه الوحي شيئًا فشيئًا ثم يُبيِّنهُ؛ والإفراد يدل على الكثرة؛ فهي كالمصدر والمصدر في أكثر الكلام لا يجمع ولا يثنى لدلالته على نوعه بلفظه كقوله: {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَا} [إبراهيم: 34].
{إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي لا يرشدهم وقد تقدّم.
وقيل: أَبْلغ أنت فأما الهِداية فإلينا.
نظيره {مَّا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ} [المائدة: 99] والله أعلم. اهـ.

.قال ابن القيم:

عتبة بن أبي وقاص الذي كسر رباعية النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد قال بعض العلماء بالأخبار أنه استقرى نسله فلا يبلغ أحد منهم الحلم إلا أبخر وأهتم يعرف ذلك فيهم من شؤم الآباء على الأبناء.
واختلف فيما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم من هذا ونحوه فقيل هو قبل نزول قوله: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} وقيل العصمة الموعود بها عصمة النفس من القتل لا عصمته من أذاهم بالكلية بل أبقى الله تعالى لرسوله ثواب ذلك الأذى ولأمته حسن التأسي به إذا أوذي أحدهم نظر إلى ما جرى عليه وصبر وللمؤذين الأشقياء الأخذة الرابية. اهـ.

.قال الماوردي في أعلام النبوة:

أظهر الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم من أعلام نبوته بعد ثبوتها بمعجز القرآن واستغنائه عما سواه من البرهان ما جعله زيادة استبصار يحج بها من قلت فطنته ويذعن لها من ضعفت بصيرته ليكون إعجاز القرآن مدركا بالخواطر الثاقبة تفكرا واستدلالا وإعجاز العيان معلوما ببداية الحواس احتياطا وإظهارا فيكون البليد مقهورا بوهمه وعيانه واللبيب محجوبا بفهمه وبيانه لأن لكل فريق من الناس طريقا هي عليهم أقرب ولهم أجذب فكان ما جمع انقياد الفرق أوضح سبيلا وأعم دليلا فمن معجزاته عصمته من أعدائه وهم الجم الغفير والعدد الكثير وهم على أتم حنق عليه وأشد طلب لنفسه وهو بينهم مسترسل قاهر ولهم مخالط ومكاثر ترمقه أبصارهم شذرا وترتعد عنه أيديهم ذعرا وقد هاجر عنه أصحابه حذرا حتى استكمل مدته فيهم ثلاث عشرة سنة ثم خرج عنهم سليما لم يكلم في نفس ولا جسد وما كان ذاك إلا بعصمة إلهية وعده الله تعالى بها فحققها حيث يقول: {والله يعصمك من الناس} فعصمه منهم.

.فصل عصمته من أذى قريش:

وأن قريشا اجتمعت في دار الندوة وكان فيهم النضر بن الحرث بن كنانة وكان زعيم القوم وساعده عبد الله بن الزبعري وكان شاعر القوم فحضهم على قتل محمد صلى الله عليه وسلم وقال لهم الموت خير لكم من الحياة فقال بعضهم كيف نصنع فقال أبو جهل هل محمد إلا رجل واحد وهل بنو هاشم إلا قبيلة من قبائل قريش فليس فيكم من يزهد في الحياة فيقتل محمد أو يريح قومه وأطرق مليا فقالوا من فعل هذا ساد فقال أبو جهل ما محمد بأقوى من رجل منا وإني أقوم إليه فأشدخ رأسه بحجر فإن قتلت أرحت قومي وإن بقيت فذاك الذي أوثر فخرجوا على ذلك فلما اجتمعوا في الحطيم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا قد جاء فتقدم من الركن فقام يصلي فنظروا إليه يطيل الركوع والسجود فقال أبو جهل فإني أقوم فأريحكم منه فأخذ مهراشا عظيما ودنا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد لا يلتفت ولا يهابه وهو يراه فلما دنا منه ارتعد وأرسل الحجر على رجله فرجع وقد شذخت أصابعه وهو يرتعد وقد دوخت أوداجه ورسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد فقال أبو جهل لأصحابه خذوني إليكم فالتزموه وقد غشي عليه ساعة فلما أفاق قال له أصحابه ما الذي أصابك قال لما دنوت منه أقبل علي من رأسه فحل فاغر فاه فحمل على أسنانه فلم أتمالك وإني أرى محمدا محجوبا فقال له بعض أصحابه يا أبا الحكم رغبت وأحببت الحياة ورجعت قال ما تغروني عن نفسي قال النضر بن الحرث فإن رجع غدا فأنا له قالوا له يا أبا سهم لئن فعلت هذا لتسودن فلما كان من الغد اجتمعوا في الحطيم منتظرين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما أشرف عليهم قاموا بأجمعهم فواثبوه فأخذ حفنة من تراب وقال شاهت الوجوه وقال حم لا ينصرون فتفرقوا عنه وهذا دفع إلهي وثق به من الله تعالى فصبر عليه حتى وقاه الله وكان من أقوى شاهد على صدقه.
ومن أعلامه أن معمر بن يزيد وكان أشجع قومه استغاثت به قريش وشكوا إليه أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت بنو كنانة تصدر عن رأيه وتطيع أمره فلما شكوا إليه قال لهم إني قادم إلى ثلاث وأريحكم منه وعندي عشرون ألف مدجج فلا أرى هذا الحي من بني هاشم يقدر على حربي وإن سألوني الدية أعطيتهم عشر ديات ففي مالي سعة وكان يتقلد بسيف طوله سبعة أشبار في عرض شبر وقصته في العرب مشهورة بالشجاعة والبأس فلبس يوم وعده قريشا سلاحه وظاهر بين درعين فوافقهم بالحطيم ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر يصلي وقد عرف ذلك فما التفت ولا تزعزع ولا قصر في صلاة فقيل له هذا محمد ساجد فاهوي إليه وقد سل سيفه وأقبل نحوه فلما دنا منه رمى بسيفه وعاد فلما صار إلى باب الصفا عثر في درعه فسقط فقام وقد أدمي وجهه بالحجارة يعدو كأشد العدو حتى بلغ البطحاء ما يلتفت إلى خلف فاجتمعوا وغسلوا عن وجهه الدم وقالوا ماذا أصابك قال ويحكم المغرور من غررتموه قالوا ما شأنك قال ما رأيت كاليوم دعوني ترجع إلي نفسي فتركوه ساعة وقالوا ما أصابك يا أبا الليث قال إني لما دنوت من محمد فأردت أن أهوي بسيفي إليه أهوى إلي من عند رأسه شجاعان أقرعان ينفخان بالنيران وتلمع من أبصارهما فعدوت فما كنت أعود في شيء من مساءة محمد.
ومن أعلامه أن كلدة بن أسد أبا الأشد وكان من القوة بمكان خاطر قريشا يوما في قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأعظموا له الخطر إن هو كفاهم فرأى رسول الله صلى الله عليه وسلم في الطريق يريد المسجد ما بين دار عقيل وعقال فجاء كلدة ومعه المزراق فرجع المزراق في صدره فرجع فزعا فقالت له قريش ما لك يا ابا الأشد فقال ويحكم ما ترون الفحل خلفي قالوا ما نرى شيئا قال ويحكم فإني أراه فلم يزل يعدو حتى بلغ الطائف فاستهزأت به ثقيف فقال أنا أعذركم لو رأيتم ما رأيت لهلكتم.
ومن أعلامه أن أبا لهب خرج يوما وقد اجتمعت قريش فقالوا يا أبا عتبة إنك سيدنا وأنت أولى بمحمد منا وأن أبا طالب هو الحائل بيننا وبينه ولو قتلته لم ينكر أبو طالب ولا حمزة منك شيئا وأنت بريء من دمه فنودي نحن الدية وتسود قومك فقال فإني أكفيكم ففرحوا بذلك ومدحته خطباؤهم فلما كان في تلك الليلة وكان مشرفا عليه نزل أبو لهب وهو يصلي وتسلقت امرأته أم جميل الحائط حتى وقفت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو ساجد فصاح به أبو لهب فلم يلتفت إليه وهما كانا لا ينقلان قدما ولا يقدران على شيء حتى تهجر الصبح وفرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له أبو لهب يا محمد أطلق عنا فقال ما كنت لأطلق عنكما أو تضمنا لي أنكما لا تؤذياني قالا قد فعلنا فدعا ربه فرجعا.